الموضوع [ 7692]

نوف المبتسمة تنتصر على مرض غامض وتكمل الطب لتصبح أول طبيبة إماراتية من ذوي الاحتياجات الخاصة

40 عملية جراحية وخسارة ساقيها خلال 6 شهور من العلاج المتواصل في لندن








هي الابنة البارة والشقيقة الحنونة والصديقة الوفية والطبيبة الطموحة.. وهي «آخر العنقود» في عائلة مواطنة تضم 12 ولداً مناصفة بين الشباب والبنات، القاسم المشترك الأكبر بينهم الحنان، والداها منحاها وأشقاءها شتى أسباب التميز، وجميعهم يحملون مسمى دكتور أو مهندس في تخصصات مختلفة.. أما هي فكانت تطمح لأن تلتحق بهذا المسمى من طريق مختصرة وتحديداً في دراستها للطب، فتصبح أول طبيبة في العائلة.


نوف حسن المعيني، فتاة من الشارقة تبلغ من العمر 23 عاماً، وتدون في سجل مذكراتها أصعب وأحلك المواقف التي قد تواجه إنساناً على هذه البسيطة.. أفاقت من الموت مرات، وهزمت الإعاقة بثبات، وصبرت على محنتها بروح إيمانية، فجسدت خير عبرة للشباب والبنات.. مع العلم أنها خرجت من معركتها مع «مرض غامض» لازمها سنتين كاملتين، وقد بترت قدماها وبعض أصابع يدها.. لكن شيئاً لم يغير نظرتها للحياة ولم يثنِ عزيمتها في مواصلة التقدم نحو أحلام وأهداف حددتها منذ الصغر.. وهي الآن أقوى.


ابتسامة الحياة... منذ أن ألف الأهل والأقارب وجهها وحتى اليوم لا تفارق محياها ابتسامة على ما يبدو خرجت إلى النور معها، تتحدث إلى الجميع وكأنها تداعب أعينهم بنبرة تسامح وحنان.. لذلك فقد حجزت لاسمها مكاناً راسخاً في قلوب جميع أفراد عائلتها الممتدة، وعرف عنها طموحها الممتزج بلمسات إيمانية لا تخلو من الشقاوة. حظيت نوف على نصيب أكبر من الرضا والدلال من والدها «رحمه الله»، فكانت الأقرب إلى قلبه، وقد شجعها لأن تتميز في دراستها وفي التخصص الذي يرضي فضولها وطموحها، وكان حلمها محصوراً في دراسة الطب، فمنذ الطفولة ظلت مولعة بألعاب على شكل أدوات يستخدمها الأطباء «سماعة وكوت أبيض».. وبالفعل تخرجت نوف من الثانوية العامة بتقدير 95%، وانتقلت لدراسة الطب في كلية دبي الطبية، وفي تلك الأثناء كانت الأجدر بالاهتمام بوالدها المريض والعناية به.


مرض غامض... في العام 2006، قبل عام من الانتهاء من دراسة الطب، داهم نوف المشتعلة حماساً وطموحاً مرض غامض، على ما يبدو هو نوع نادر من الروماتزم ظهر فجأة.. بدت على وجهها ملامح المرض، وراحت تتنقل بين العيادات والمستشفيات لإجراء الفحوصات اللازمة، وبدأت حالتها تتأرجح بين استقرار نسبي وألم شديد يعود ثانية. الشكوك ساورت أفراد أسرتها، البعض توقع أن يكون مرضها مسٌ من الجن، والآخر اقتنع أنه حسد، وآخرون وقفوا إلى جانبها حائرين، فيما الشكل الذي اجتمعت عليه العائلة كان على هيئة مساندة وشعور صادق مع نوف المريضة، والتي بدأت تتأرجح حتى في دراستها الجامعية. في تلك الأثناء استقر الوضع على أدوية محددة ب«الكورتيزون والكيماوي»، وذلك بعد سفرها إلى ألمانيا، حيث كان والدها المريض في رحلة علاج، وفي ألمانيا أجريت لها فحوصات كثيرة، ثم عادت وسافرت إلى الأردن للعلاج، وبعدها إلى ألمانيا ثانية، وظلت تتنقل بين أكثر من مستشفى داخل الدولة وخارجها بغية الحصول على علاج يقيها بعض ملامح المرض الغامض.


ذلك المرض أضعف جسدها كثيراً، وبدت ملامحه في اتساع، حيث القيء والإسهال والحرارة والحساسية وألم المفاصل وغيرها من الأعراض، التي تأتي وتزول، وفي صيف العام 2007، أي بعد 8 شهور من ظهور المرض عليها، كانت المصيبة الأكبر في انتظارها، التي بدأت باشتداد المرض عند والدها، ودخوله أحد مستشفيات دبي، وهناك ظلت نوف «الابنة المدللة» متسمرة عند أبيها، تتابعه لحظة بلحظة، بأثواب متبدلة «الابنة والممرضة والطبيبة».. وفي الطرف الآخر كانت الأخصائية التي تنشر ملامح الصبر والإيمان على وجوه أفراد عائلتها.


وفاة الأب


نوف تعايش حالتين هما الأصعب، واحدة في حضرة أبيها الذي يواجه الموت على فراش المرض، وأخرى في التخفيف عن والدتها المريضة أيضاً، وعن أشقائها وأقربائها، تماماً كما هو لسان حالها وهي مريضة تتنقل بين مستشفيات كثيرة.. الأهل والأقارب يبكون وهي تبادلهم الموقف بابتسامات جميلة وواثقة!.


توفي الأب وعاد أفراد أسرتها يفتقدون وجهاً عطوفاً أفنى حياته أملاً في إرضاء ضميره المحب لأبنائه.. مضت شهور قليلة من «عدة الأم»، وفي اليوم الأخير من العدة كانت المفاجأة، نوف تعود إلى المستشفى، وتدخل في مراحل قريبة من الموت، وفجأة يجدها الأهل في حالة إغماء دامت أربعة أيام.. تورمت رجلاها وانتفخ وجهها وبدأ السواد يغزو جسدها، وملامح أخرى قاسية بدت أمام أعين العائلة التي انهار بعض أفرادها في حضرة نوف المفعمة بالحب والمرح، التي تحولت بلا سابق إنذار إلى كومة من المعاناة والألم، حتى أن بعض أقاربها لم يصدق أنها نوف الطبيبة المنتظرة.


بعد أربعة أيام عادت نوف إلى الحياة من جديد، وسط ذهول الأهل والأطباء، حيث كانت ترقد في أحد مستشفيات الدولة.. لم تكن تعلم أنها غابت عن الحياة أربعة أيام، لكنها لاحظت تغيرات طرأت على جسدها وبدأت تتساءل عن السبب.. على ما يبدو «غرغرينة» في رجليها وبعض أصابع يديها.. لماذا وكيف؟! لا أحد يدري.


طائرة خاصة


أيام قليلة وكانت الطائرة الخاصة بانتظارها للسفر إلى بريطانيا للعلاج، وعلى متن الطائرة نفسها كانت والدتها وبعض أشقائها وطبيب وممرضة، فيما البقية من أفراد أسرتها لحقوا بها في طائرة أخرى، وهناك في لندن أظهرت العائلة حالة أخرى من الحنان والتماسك والصلابة الأسرية.. الجميع يدعو لها بالشفاء والدموع تملاً العيون من حولها.. إلا عيناها تنظران إلى الحياة بأمل وحب وتفاؤل.


وبعد معاينة حالتها التي بدت في غاية الصعوبة، قرر الأطباء إجراء عمليات بتر لساقيها وبعض أصابع يدها، خشية من انتقال الغرغرينة، وهي التي انتشرت في أطرافها ربما نتيجة تحسس جسدها من الأدوية التي كانت تتناولها أو بسبب أخطاء علاجية ارتكبها الأطباء، فالمرض نادر جداً حول العالم، ولم يصب به إلا تسعة فقط ونوف كانت العاشرة، خاصة وأن المرض مناعي، وبسببه يبدأ الجسم بتدمير نفسه بلا أي سبب يعرف. نوف تقبلت رأي الأطباء، فهي طبيبة مع «وقف التنفيذ»، إلا أن المشكلة كانت لدى عائلتها التي حاولت إقناعها بالتريث والبحث عن مستشفيات أخرى ربما تعفيها من فقدان ساقيها، لكن معرفة نوف الأكاديمية جعلتها تصر على الإسراع في العملية.


بتر القدمين


على عكس المتعارف، وعلى الرغم من أن نوف ممددة على سريرها لا تقوى على التحرك إلى أي مكان، إلا أنها تولت مهمة إقناع عائلتها بجمل إيمانية تنم عن قناعة ورضا بقدر الله، وراحت تحدث والدتها وأشقاءها أن العملية ستنجح وستعود هي إلى الحياة من جديد.. ستسير على قدمين صناعيتين، وستعيد الأمل إلى نفوس الجميع، هكذا ظل حالها، فيما المقابلون غارقون في أحزانهم ودموعهم.


صباح يوم العملية الأولى التي كانت مقررة في 12 سبتمبر 2008، سمعت نوف أحد المرضى وهو من الجنسية العربية يتأوه من الألم بعد خروجه من غرفة العمليات، ولم يرق لها ذلك، فرفعت يديها إلى السماء داعية «يا رب أخرجني من غرفة العمليات ولساني يلهج بذكرك»، مضت ثلاث ساعات وخرجت نوف مبتورة الساقين ولسانها يقول «يا الله يا الله».. الحمد لله البتر جاء تحت الركبة، وتلك رحمة من الله، فرح الأهل بسلامتها وإن كانت فرحتهم منقوصة بسبب فقدانها ساقيها.


ستة شهور أمضتها نوف في المستشفى بلندن، أجريت لها أكثر من 40 عملية، بتر وجراحة وتجميل، في الجلد والعضل والشرايين، وذلك بعد أن تلف جزء كبير من جسدها.. وشيئاً فشيئاً تمكنت نوف من استعادة ثقة عائلتها بالحياة، وهي إلى الآن لم تفقد معنى أن الحياة جميلة وإن كانت فقدت ساقيها وبعض أصابعها.


نوف التي جاءت إلى مقر صحيفة «البيان» على قدميها الصناعيتين، وإلى جانبها صديقة عمرها منية السويدي التي أبت إلا أن تشاركها مختلف اللحظات الجميلة في حياتها، أكدت نوف أنها محظوظة جداً.. فهي خرجت من سبات الموت مرات عديدة، وها هي تعود إلى الحياة بروح أجمل وصلابة أفضل.. فهي لم تكره من هذه الحياة سوى شيء وحيد وهو مصطلح «معاق» الذي يرميه البعض دونما إدراك أن الإرادة إذا حضرت قهراً ستتلاشى الإعاقة.


حمدان بن محمد يمد يد العون لنوف وأسرتها


في فترة العلاج في لندن، وبينما كانت تتجول مع شقيقتها في «هارودز»، حيث كانت تجلس على كرسي متحرك بلا قاعدة تحمل قدميها الصناعيتين، وإذا بنوف وجهاً لوجه مع اسم إماراتي كبير.. إنه سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي، أشارت إليه واعترضت طريقه وهي تسأل: «أنت فزاع؟!»، أجابها نعم، وسألها من أين أنت ولماذا أنت هنا.. وبدا على هيئة إنسانية عظيمة.


وبعد حديث دار بينها وبين سموه، الذي تعرف على واقع نوف وبعض تفاصيل مرضها وفقدانها ساقيها، سألها عن حاجتها ومن معها، وحاول جاهداً أن يقدم العون لأسرتها، عندها أخبرته نوف أن والدتها مريضة وتحتاج للذهاب إلى المستشفى، وفي اليوم التالي جاءت سيارة خاصة مرسلة من سموه، تحمل كرسياً أتوماتيكياً لنوف، وتنتظر الأم لنقلها إلى المستشفى.


سمو الشيخ حمدان وقبل أن يترك نوف في لندن، أوصاها بأن تخبره بأي جديد يحدث معها بعد العودة إلى الإمارات، وألا تتردد في طلب أي شيء.. وتلك كما تقول لفتة إنسانية بلغ صداها حداً لم تتوقعه في حياتها.. بالتأكيد هي محظوظة لكثير من الأمور.. واحدة منها كما توضح أن مرضها الذي جاء على شكل اختبار رباني، أتاح لها الفرصة لمقابلة سمو ولي عهد دبي للمرة الأولى في حياتها والتحدث إليه، وتلك فرصة العمر التي لن تزول من ذاكرة نوف.


ونوف محظوظة أيضاً كما تقول لأنها عادت إلى الحياة تسير كما كانت، حيث ظلت طوال فترة العلاج تدعو ربها أن تتمكن من المشي، وعلى الرغم من أن بدايتها في الشفاء كانت تحبو كما الأطفال، إلا أن إرادتها ظلت الأقوى، ولم تأبه لتعليقات البعض ونظرات الشفقة من المحيطين، لأنها لا تحتاج الشفقة، كما تقول، وهي تحتسب عند الله بأن تكون قد اجتازت الاختبار الرباني بنجاح.


الآن تمتلك نوف سيارة خاصة تقودها باليدين فقط.. تسرع فيها كما كانت قبل أن تواجه المرض وتتنقل فيها إلى الجامعة والمستشفى الذي كانت تتدرب فيه، كما عادت لتقود دراجتها النارية في مزرعة العائلة، وأصبحت تتنقل في البيت بسهولة، لا سيما في ظل وجود المرافق الخاصة بها، والتي تسهل عليها حركتها كثيراً .. كل شيء عاد كما كان في السابق، فلماذا تحزن، لم تفقد شيئاً، كما تقول، بل إنها عادت أقوى وأكثر ثقة بنفسها وبالمحيط الذي تعيش فيه.


قصة المرض


تجربة البطولة في «الهدف الرياضي»


لأنها أحبت الحياة منذ أفاقت عليها، لم تدع نوف وسيلة إلا وأجادت استخدامها، فعلى سرير الشفاء كان الانترنت ونيسها للتواصل مع العالم الخارجي.. وبحكم أن شقيقها عضو في منتدى الهدف الرياضي، ولكون أنها تهوى رياضة الشطرنج وركوب الدراجات، تمكنت نوف من الانتساب إلى المنتدى، وبعد أن تعرف القائمون على المنتدى على واقعها المرضي وحضورها الرياضي والمجتمعي، أصروا عليها أن تتولى الإشراف على أحد أركانه، وبالفعل كان لها ذلك، ومن خلال المنتدى نشرت قصتها وتجربتها مع مرضها الغامض، أما ردود القراء والأعضاء فكانت الدافع الأبرز لأن تواصل نوف مشوارها نحو البطولة في المنتدى وفي المجتمع الإماراتي الأوسع، لأنها ببساطة تحب الحياة.


عودة للدراسة


أول طبيبة إماراتية من فئة ذوي الاحتياجات


خيار دراسة الطب كان بالنسبة لنوف المعيني حلماً لا مفر من الوصول إليه، وبينما كانت تجابه المرض وتقهره شيئاً فشيئاً، كانت في المقابل على تواصل دائم مع صديقاتها وزميلاتها في الدراسة، تتابع ما فاتها حباً في مهنة الطب عن طريق الانترنت، وتعيش حالة دراسية عن بعد.. فهي كما تقول على إيمان مطلق أنها ستعود إلى الحياة وستلتحق بجامعتها، لذلك كان حرصها الدائم ألا تبتعد عن واقع الدراسة الطوعي وإن بدت ظروفها الصحية في غاية الصعوبة.


عادت نوف إلى الشارقة، وتناثر الفرح في أرجاء «فريجها» الذي حزن طويلاً على معاناتها مع مرضها الغامض.. وحديثاً التحقت بكليتها من جديد لاستكمال ما فاتها في تخصص الطب الذي اختارته بقناعة الطفولة ودعم وتحفيز الأب، وقد أدت بعض الاختبارات العملية بنجاح لافت، وتستعد لاستكمال امتحانات أخرى تنتظرها، حيث لم يفصلها عن امتلاك شهادة الطب، والتقاط مسمى «دكتورة» سوى عام واحد، وبذلك تصبح أول طبيبة في العائلة، وأول طبيبة إماراتية من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتلك ميزة إيجابية أخرى حصلت عليها بفعل مرضها.


المصدر: البيان بتاريخ : 6 نوفمبر 2009